"هابي فالنتاين".. يا شباب
معتز الخطيب
إن اتساع ظاهرة "فالنتاين" وانتشارها لتشمل العديد من العواصم العربية كالقاهرة وتونس وبيروت ودمشق وغيرها يعكس مدى انتشار هذا النمط الجديد المغري عاطفيًّا وربحيًّا؛ باعتباره نمطاً عصريًّا متحضرًا.
لكن الاحتفال بـ"عيد الحب" بدا مبالغًا فيه إلى حد كبير لدرجة إقامة تظاهرات شعبية في بعض الدول، وإذا لم تحتفل بهذا اليوم أو لم تقدم أو تتلقَ هدية فلا بد أنك تفتقد شيئًا ما مهمًّا؛ وبيَّن استطلاع في نيوزيلندا أن الرجال يشعرون بضغط كبير لشراء هدايا في عيد الحب، وأن النساء يشعرن باستياء إذا لم يقدم لهن أحباؤهن هدية، بل إن بعض النساء اللاتي لا يتوقعن تسلم رسائل حب في هذه المناسبة يرسلن بطاقات إلى أنفسهن أو كلابهن!!
ولم يكن من قبيل المصادفة أن يحمل أحد الفيروسات الشهيرة في السنة قبل الماضية عنوان "أحبك"؛ ذلك أن ذكاء المصمم -أو لنقُل خُبثه- أرشده إلى كلمة في غاية الحساسية؛ لما تختزنه من مشاعر، وتذيب كل برود.
لا نريد الحديث هنا عن الفيروس، بل الإشارة إلى أن اشتغال فيروس على كاريزما الحب جلب خسائر بمليارات الدولارات وعطَّل ملايين الأجهزة؛ ما يصور مدى الهوس "بالغرام" الذي جعل فالنتاين ينفلت من نطاق تقليد ثقافي خاص إلى ظاهرة كونية يمكن استثمارها وتحقيقها لمكاسب مالية ضخمة بقدر الخسائر التي تحققت بفعل الفيروس. خاصة في السنوات الأخيرة التي شهدت زيادة نفوذ الآلة الإعلامية التي كانت قنطرة لتسويق العولمة، وإعادة التشكيل الثقافي، كما شهدت أحداثًا مأساوية جعلت الكثيرين في العالم يتطلعون إلى يوم الحب.
قصة الاحتفال بفالنتين
إن ظاهرة الاحتفال تشمل أبعادًا دينية وثقافية واقتصادية فضلاً عن العاطفية، يتجسد البُعد الديني في الترميز الذي يشير إلى القديس فالنتاين أحد شهداء المسيحية سنة 270م، وحسب الرواية الأكثر شهرة من الروايات الثلاث التي توردها الموسوعة الكاثوليكية كان قد كتب قبل إعدامه رسالة وقَّعها بقوله: "مع حبي" لابنة الإمبراطور الروماني كلايديس الثاني الذي كان حرّم الزواج على الجنود؛ رغبة في تفريغ الجنود للحرب؛ لأن العُزّاب كانوا أثبت وأقوى في ساحة المعركة؛ فكان فالنتاين يعقد عقود الزواج سرًّا، ولما افتضح أمره تم إعدامه.
وفي العصر الفكتوري تحول العيد إلى مناسبة عامة عندما طبعت لأول مرة بطاقات تهنئة بهذا اليوم، وكانت الملكة فكتوريا ترسل مئات البطاقات المعطرة بهذه المناسبة إلى أفراد وأصدقاء الأسرة الملكية، وترجع أقدم رسالة حب كتبت باللغة الإنجليزية لهذه المناسبة إلى سنة 1477م. وطقوس هذه المناسبة تتنوع من تبادل الورود الحمراء إلى بطاقات التهنئة إلى صورة "كيوبيد" (إله الحب عند الرومان) إلى غير ذلك من الإبداعات.
وإذا كان هذا الحدث -إن تأكد- يشكل مشروعية للاحتفال بيوم الحب حينها؛ فما مبررات استدامته وعَوْده كل سنة؟ وهل يمكن لهذه الخصوصية أن تفلت من أَسر الزمان لتمتد بامتداده وتتعدى نطاق الجغرافيا؟ فما الذي يدفعه إلى الكونية؟ الأسباب لا تقتصر على البعد الديني؛ فثمة العاطفي والثقافي والاقتصادي.
المشاعر = استهلاك
فالتنميط الاستهلاكي الذي كرّسته الرأسمالية كان له أثر كبير في التحولات الثقافية والاجتماعية، وخاصة في مجال العلاقات الناظمة للمجتمع؛ ففي ظل النظام الرأسمالي تم تَشْييء الإنسان (أي تحويله إلى شيء)؛ وهو ما قلّص من الشحنة التراحمية التي كانت تتمتع بها المجتمعات التقليدية، حتى تحول إلى ما يشبه "الآلة"؛ الأمر الذي ربما يؤكده شكل العلاقات الأسرية النووية وتهميش الممتدة منها.
هذا النمط الجديد من الحياة الذي حوَّل الإنسان إلى "كائن استهلاكي" جعل لهاثه الدائم لتلبية احتياجاته يهمِّش المشاعر والأحاسيس؛ لتخرج من حيز الممارسات اليومية في المجتمعات التقليدية إلى حيز المناسبات السنوية؛ ما ينم عن فقر في المشاعر الإنسانية المتبادلة، وهنا تكون المبالغة في الاحتفاء بها -في أحد جوانبها- تعويضًا عن النقص والحرمان باقي الأيام. أمر آخر نلحظه، وهو أن سهولة الاتصال وعولمته لم تفلح في تقريب الناس من بعضها؛ فالواضح أنه كلما زادت سهولة الاتصال وأدواته تضاءلت العلاقات الإنسانية المباشرة، وانعكس ذلك على فقر عام في المشاعر، ولم تقدم التقنية إلا نسيجًا من العلاقات وهميًّا أكثر منه حقيقيًا.
ومن جانب آخر تعتبر المبالغة تلك إرضاء للنزعة الاستهلاكية؛ حيث تُنفَق الملايين على الزهور وبطاقات التهنئة ورسائل الحب والشوكولاتة، وتربح كولومبيا –مثلاً– نحو 600 مليون دولار سنويًّا من زراعة وتصدير أكثر من 50 نوعًا من الزهور، 40% من الورد يباع في عيدي الحب والأم، وأنفق البريطانيون في عيد الحب سنة 2000م نحو 35 مليون دولار، وترتفع نسبة بيع الورود في هذا اليوم إلى 400% عنها في الأيام العادية.